الساوشل ميديا إلى أين؟
قبل مدة ليست بيسير كنت متتبعة نهمة لوسائل التواصل أغرق في تفاصيلها لساعات ذوات
عدد، ألعب اللعبة بجميع أشواطها بتتبع قميء للغاية ومثير للقرف في كثير من
الأحايين، حالات القرف والتقيؤِ التي كانت تصاحبني خلال ساعات غرقي في هذا البحر
الآسن اللُّجي لم تكن خالية من دهشة وانبهار ونصف فائدة مرجوَّة ، إلى حد بعيد كانت
اللعبة على نتانتها تبدو شهية ومثيرة كما لو أنها بؤرة إغراء اجتمعت فيها كل وسائله...
أنظر من بعيد حيوات متعددة بفم فاغر وعينان على
صغرهما كانت لشدة اتساعهما تبدوان دعجاوان للغاية، كانت مخائل الدهشة التي تعتريني
لساعات يصاحبها قلب أسيف يقرعني بسؤال بئيس يتيم ماذا حققت وسط كل هؤلاء المدهشين؟ طنطنة السؤال، ارتجاجه ودندنته كل هؤلاء كانوا يأخذون بيدي سِراعا لبئر مظلمة؛
بئر الاكتئاب الذي منشؤه مقارنات عدة، مقارنات لا نهائية كانت تجعل شخصي يتماهى،
يتضائل تدريجيا إلى أن يستحيل جناح بعوضة منسي، تصغر نفسي في عيناي أتفل عليها
ألوفا أمزقها بوابل التأنيبات بوابل الشتائم، أكسرها بلا أدنى شفقة ثم أودعها
أشلاء بنظرة يتيم كانت تتلخص فيها كل معاني الشماتة...
بعد كل لحظة انبهار و دندنة السؤال ماذا حققت؟ كانت
تصيبني حالة دوار وصداع لا نهائي وأغرق في الكآبة يوما بعد آخر وهالة الإنجاز
غير المحقق تصاحبني تطوِّق المكان وتجعله خانقا للغاية، تتسع بؤرة الوحدة شيئا
فشيئا ويسقط الجميع في سلة مهملاتي الشخصية أنطوي على نفسي بجناح مهيض وجنان
كأنه بدد متفرقة و أنا الغريق فما خوفي من البلل يا حجِّي...
أتصاغر، أتصاغر ......ثم ماذا بعدُ.
كانت الحياة هنا تبدو لازوردية للغاية ولأنني اعتدت
أن أعيش في منطقتي الخاصة وأمارس الفرض كما الواقع بل كنت حقيقية فيه أكثر من
واقعي متخلصة من كل الأغلال و القيود التي قد يفرضها واقع كواقعنا، كنت أحسب
اللعبة تمشي مع الجميع هكذا تماما، لم أكن أعلم جانب البالونات المنفوخة التي كانت
تملأ الساحة، و رغم كرهي الدائم لكل فتاة تريد أن تجعل من نفسها فتاة الإنجار والهدف فتاة المشاريع والشهرة؛ كباسط كفيه على الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه إلا
أنني كنت أُضَلَّل في الكثير من المرات لأجدني أقع في شِراك فخ الشهرة الذي صنعته
أيد خفية لأنفسها منبهرة كما العادة، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده
شيئا... تمضي سفينتي في خضم بحر لجي متلاطم بلا ربانها أترنح ذات اليمين والشمال
محاولة فك طلسِّمات هذه اللعبة التي أريد أن أسترجع فيها بقية إيمان يسير في ذماي، أن أسترجع فيها أناي الهاربة من بين أصابعي لكنني بالكاد أحاول، عملية الهروب
كانت متواصلة و ذاكرتي التي كانت تنهشني بسؤالها البكر كانت لا تزال تمارس عادتها
المنتنة تقضم بقايا قوايا الخائرة وتبعث الشتات من جديد كرة بعد أخرى، تغرز
أظافرها في تلافيف دماغي و دع جرحي يترشش دما بلا أدنى شفقة و لا رحمة، بين كل
محاولات التملص كانت رؤوس و أقطاب و أرباب هنا تتساقط، تفقع بالوناتها المنفوخة
شيئا فشيئا يذهب الزبد جفاء و يبقى ما ينفع في الأرض تدريجيا بدت صورة الحياة
اللازوردية تعتم و بدأت أقف على حقائق مغيبة لكن كمية الإغراء كانت أكبر من أستطيع
التخلص منها، وحدها تلك الغرارة الملقاة في قارعة طريقي هناك أسقطت البالونات
كلها ضربة لازب كشفت هذا الداء المستشري وأزالت جنح الضباب الذي كان يطوِّق
المكان مسدلا غشاوة على بصري لم تنفع البالونات الساقطة آنفا لكن شيئان بسيطان من
جملة تلك التفاصيل الهاربة من حيواتنا التقطتهما بملقاط رفيع دمجتهما كشذرتي ذهب
لأزيل بقية الغبش...
في مدخل المسجد(1) تقف أختان جالستان تجتذبان طرفا
الحديث فجأة تطلب واحدة من خليلتها أن تحضر لها مصحفا، تفتحه بعناية فائقة على
صفحة عشوائية تأخذ بطريقة أوتوماتيكية جهاز هاتفها الذكي تعطيه لخليلتها تغرق
صاحبة المصحف لثانيتين في عمق صفحة كتاب لا يظهر الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تأخذ الأخرى صورة من زاوية مدروسة بعناية لصديقتها تشكرها، يُغلق الكتاب،
يرجع إلى مكانه على الرف و يبدو كل شيء كأنه لم يك شيئا...
هذه اللحظة الدرامية العابرة ستوزع بعد ثوان على
صفحات الساوشل ميديا زخم الإعجابات سيطوق صورة لم تنفق عليها سوى خمس ثوان على
أكبر ترجيح، كمية التعليقات التي ستطوق منشورا بهذا الثقل ترضي غرور المرء بانتشاء
كبير ...مجددا لا دخل لي بالنوايا قد تكون صاحبة الصورة حافظة تالية لكتاب الله أناء الليل و أطراف النهار، لكن المشهد يا سادة يمزق وتين القلب، الصور اليوم
خرقت قدسية الكثير من الأمور وحميمية الكثير من العلاقات هذه الركائز التي كانت
تطوِّق علاقات من الأهمية بمكان و تُضْفي عليها شيئا من المصداقية كذا الربانية،
الأمر أكبر من أن نختزله في دائرة الإخلاص الذي يبدو علاقة بين العبد و بارئه مثل
هذه الأمور تتعدى ثنائية العلاقة إلى الجمهور، الجمهور الذي يرى في تصوير أمور
كهذه شيئا ينتهك حرمة بعينها، يبدد هيبة و جلالة شيء ما اعتدناه في مكان قصي من
قلوبنا روحانيا للغاية لا تطاله يد الابتذال ....الهيبة، القدسية والحميمية أمور
اغتالتها عدسة الكميرا الموجهة لساحات وسائل التواصل.
نتابع على عرش هذه الوسائل مشاهير عرب مملوئين بزخم
المشاريع والهمم القسعاء المتطاولة مع خليط من الإسلام الحديث أو الcool، ما لا حظته أن
هؤلاء المشاهير يركزون في عمليات نشاطهم على علاقاتهم مع أزواجهم؛ الجمهور العربي
البئيس مفتون بهذه العلاقات واللعب على مشاعره في هذا الميدان يستطيع أن يجعله
أعمى وأصم، ما لاحظته أن نشر صور الأزواج لبعضهم يبدو استغفالا لعقل الجمهور وتصوير هذه العلاقات الثنائية بالمظهر التكاملي الفاتن يبدو مبالغا فيه، فلحظة
مسكة اليد وما دونها وما أكثر لحظات سعادة يُفترض أن تكون لحظات هاربة من عجلة
الزمن، لحظات ليس لدينا كمية كافية من الوقت لتوثيقها بعدسة الكميرا مجرد وجود
ذلك الزمن الفارق يسقط بها في بئر الابتذال والتصنع هذا ما أومن به، اللحظات
الحميمية لحظات لا تُشارك تعاش اختلاسا وسرقة لحظات لا تستحق أن يعيشها أكثر من
روحين إن تهيئة الوضعية الجسدية للقيام بلقطة تختلسها العدسة لهو الكلفة الممقوتة
ولكنه في عرف وسائل التواصل مدعاة لتعليق ذهبي مفاده The best couple
ever " وإن وراء
الأكمة ما وراءها
مجددا في مدخل مسجد آخر(2) ألتقي ببلقيس من نيجيريا
فتاة من عمق صحراء أفريقية فتاة تتكلم لغات عدة تقرأ العربية لكنها لا تتكلمها و
لا تفهمها كثيرا، تجيد الانجليزية بشكل رائع فقدت أباها و زوجها لكن بدت صامدة جدا، عندما بدأت الحديث معها اكتشفت الوجه الاخر المغيب في عمق صحاري أفريقيا؛ فتاة
تعرف دقائق الدين بعناية فائقة تميز البدعة من السنة وتحلق في السماء الدعوة،
تطلب منا صدقيتها البنغلاديشية أن نشرح لها مقتطفا من عبارة بالانجليزية أشرح
العبارة وأمضي، تستوقفني بلقيس موضحة دقائق أخرى زخم معلومات أمطرت بها الأخت ما كنت أظن قط أنها على
علم بها كمسلمة في عمق صحاري نيجيريا، تبهرني تلك البلقيس، تجعلني أتمتم "
مجهولون في الأرض معروفون في السماء "
في النهاية مشكلتي تكمن في كوني مريضة بالتفاصيل ،
التفاصيل المرمية على قارعة الطريق والعالقة في جَنَباته و التي لا يلتقطها أحد
إلاي؛ التفاصيل ذاتها التي تحييني بالقدر الذي تميتني...
__________
(1) كان هذا في المسجد النبوي
(2) كان هذا في المسجد الحرام
و كتبته أمُّ النَّضار و تُماضُر نورالهدى

Commentaires
Enregistrer un commentaire