
إنِّي لأحسب أنَّ الإنسان كلَّما رسخت قدمه في العلم ارتفع سمته عن سفاسف الأمور ، و هدأ طبعه عن الخوض في اللِّجاج و اللَّدد و الخصومة و نأى جانبا يرُوم الإستزادة من فضل الله عليه كيْمَا يبسُط يده على فرع من العلوم لم تكن يدُه قد طالته بعدُ، يضنُّ بوقته و بعقله إذ هما رأس مال المرء!، ثمَّ ذهب وقت و أتى وقت صار هذا الأخير بضاعة العاطلين عن العمل المتقبِّين زورا ثوب الثَّقافة و العلم، الجالسين على مائدته المتحلِّقين حوله هم البعيدون عنه بعد السماوات السَّبع عن الأراضين السَّبع
و أحسبُ أنَّ المرء كلَّما علا كعبه في الأدب و البليغ و الفصاحة و الحصافة تملَّكه الحياء حتَّى ما تكاد تُبينه، يعترِيه خِفر العذراء في خدرها كلَّما أُشِير إليه فيُقال كاتب، و وجدتَه محاولا جَهدَه أن لا يُنسب إليه شيئ من هذا؛ يتخفَّف من حِملٍ ثقيل ليس هو ببالغ شأوه، لا عن قصور في زمنٍ خفَّت فيه البضاعة فهي مزجاة، و كسدت فيه الأساليب البيانية فهي مستهلكةٌ لا جديد فيها، و لكن لأنَّه يعلم حقَّ العلم ما فعل الأوَّل و ما حبَّر فهو يرى الهُوَّة السَّحيقة آخذةً في الإتِّساع يستحي أن يُشارك لقبا خُصَّ به أجداده الأولون فأعطوه حقَّه و مستحقَّه ثم هو لا يسْلِبه إلَّا ما استكملوا هم فيه الغايَة. ثمَّ إنَّك واجدُه إن حدَّثته نفسُه بالتأليف و النَّشر مطأطأ الرأس يعلم في قرارة نفسه سوء فعلته فهو بعدُ ينزع عنه ما جُبلت عليه النفس من خُيَلَاء لا يعرف حدود الحرف، إنَّ سَعة الإطِّلاع يا سادة يكسر شِرَّة النَّفس و يحول بينها و بين وضرٍ لا يزيدها إلا نشازا
و إنِّي لأطلَّع على أكتوباتٍ أحسبُ أنَّ أكثرها لا يصلُح إلاَّ في مزبلة التَّاريخ سُقما في العبارة و غثاثةً في الأسلوب و سماجةً في الفكرة و لجاجةً من غير طائل، فإن طُبعتْ في ورقٍ فلا أحسبُه يصلح إلا مُسوحا للغبار و الأتربة شيءٌ بعضه من بعض. على أنَّك واجدُ أكثر أصحابها من أولي الكِبرِ و مصعِّري الخدِّ و نافخي العقيرة و اللَّابسين ثوبًا من زور و المدَّعين ما ليس فيهم ، أحلاسٌ لا تدلُّ على شيء إلا عن طينة أصحابها
أتعبِّر تلك الحروف عن صدأ الأنفس التي باتت تدَّعي زورا و بهتانا حِمل أمانة القلم -و إنَّ حمل أمانته لشديد-؟!، أم تعكس تلك العبثية التي بات المجتمع غارقا فيها من أعلى رأسه إلى أخمص قدمه و ذلك التصَّدر القميء قبل أن يستوفي المرءُ أدوات الشيء، أم تعكس المجتمع بكلِّ بلادته! أم هي قبل كلِّ شيء فورة الشَّباب التي تدفع بهؤلاء إلى وُلوج شِعاب العلم و الكتابة على غير بيِّنة؛ أهو طيش لطالما ألفناه أم أنَّه جنُون العظمة و الشُّهرة قد أتى على أخضر العُمر فأرداه يَبَسَا
إنَّني لا أعرف قانونا يُصادر حريَّة الكتابة و لكنَّني أعلم شِرعةً أقربَ ما تكون لشرعة السَّماء منْ يملكها يُصِب الحظَّ الوافر إذ هي وجاءٌ للنَّفس تجعلها دون مزالق شتَّى و تحول بينها و بين الهويِّ في ردغة الخبالِ و التملُّق و تضرب بين المرء و بين هذا العبث فُسطاطا لا يتقوَّض إذ فيها تتلخَّص حياة القلب و على دعائمها تُرسى الفضائل الإنسانيَّة قاطبة و هي القائمة التي لا يقوم المنصفون إلا بها إنَّها شِرعة الضمير يا سادة إذ عليها يدور الأمر كلُّه، فإليها يحتكم الألباء الجهابذة وهي وحدها الحارسة لهم و لفضائلهم الحائلة بينهم و بين كثير مما سُبق ذكره
إنَّني لأجد كلماتَ كثيرٍ ممَّن تربَّع على عرش المشِيخة الكتابية اليوم ممجوجة كأنَّما قُدَّت من عضل الشُّوك، و إن لِأعطاف عباراتهم لغمزا على القلب موجعا ، و إنَّ الألفاظ لتبلى عندهم خاصَّة حتَّى ما تحسَبها إلا مِزقا متهدِّلة، و إن الحروف لينوء بعضُها إلى بعض يستجدي العزاء، و إنَّ اللُّغة لتتداعى بين ظهرانيهم حتَّى ما تحسبُ لها من قرار، و لو أمعنت فيها النَّظر و دقَّقت و أحييت الليالي ذوات العدد تبحثُ فيها عن أثارةٍ من علم أو بقيَّة من حسٍّ ما أنت بواجد، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، و لو صحَّ في هذه الفئة الباغية من قول لكان قول الأول
فدعك من الكتابة لست منها ..و لو سوَّدت وجهك بالمداد
و لو أراغ الواحد منهم الكلام و أداره و اعتسف له لما جاء بأحسن مما قلتُ لك
إنَّه ليُخيّل إليَّ في خضم هذا التزايدِ الفاحش لعددٍ من الكُتّاب اليوم من الذين باتوا يدُسُّون بين دفتي كتاب سمجهم و ركاكتهم و تهاويلهم الفارغة من الحقيقة بلا مراعاة لحرمة العلم ، بَلْه الكلمة و القلم و اللغة و هلم جرا، يُخيّل إلي على إثر هذا أنَّ صعوبة النَّشر و العوائق التي كانت تحول بين كبار للكتاب و المفكرين كانت نعمة لا نقمة كما يظهر بادي الأمر، فهي على الأقل حالت بين الناس و بين كثير من الغثاثة التي كان يُمكن أن تُبثَّ مطاوي الكتب و إن جعلت خيرا كثيرا وراء الحُجب و ضربت بيننا و بينه ستارا صفيقا
ثم يأتي اليوم ممَّن لا يعرف في العربيَّة إلا حروفا مرصوفة في أبجديتها يضُّمها إلى بعض ضما ليُدرجها في مصاف الكلمات؛ كلمات تهول بلا جسم ، و التي يظل الغائب الأكبر منها البيان؛ تلك النعمة التي اصطفى الله بها الإنسان و فضَّله على كثير ممن خلق تفضيلا، لتصير هذه الكلمات المرصوفة و التي لا تزيد على كونها غُثاء كغثاء السيل تودع مطاوي كتبٍ تُباع بأثمان تستنزف جيب القارئ الغِمر الذي لا عهد له بالقامات السَّامقة و الأرجل الراسخة في الفن الذي يقرأ فيه. و لأننا في عصر الركاكة فلا عجب إذ ذاك أن يكون القارئ و إن كان طويل عهد بالإطلاع على الكُتب سيِّء الذائقة إذ يشبُّ و يشيب على كل هذا السَّمج فالفطرة بعدُ قد انتكست، و لاعجب أيضا أن يحمل راصف هذا السَّمج إسم الكاتب، ثم لا غرو أن يصير لهذا الكاتب مجازا جمهورٌ يحفل به فنحن في بلاد العجائب كما ترى
ثمَّ أزيدُك عجبا فإنَّك سترى هؤلاء أنفسهم يرمون أساطين الكتَّاب بالتَّعقيد و بأهل العربيَّة الأولى؛ أصحاب القديم و لغة التراث التي قد طواها الدَّهر أشبه ما فعل بالكتابات الفرعونية و الهيروغليفية الأولى، فعهد تلك اللغة قد ولىَّ و عفا و أكل عليه الدهر و شرب
و هم أنفسهم كما يقول الشَّيخ شاكر - تغمَّده الله بواسع رحمته و غفر له كفاء ما بذل للعربيَّة من آياد بيضاء سابغة -: "لو بُعث واحد من كتاب الأمس من مرقده ثمَّ نظر إليهم نظرة دون أن يتكلم لألجمهم العرق ، ولصار لسانهم مضغة لا تتلجلج بين أفكهم ، من الهيبة وحدها ، لا من علمهم الذي يستخفون به ويهزؤون"
(1)
و عزاؤنا أنَّ هذا سُنَّة من سَنن الأرض الباقية من لدن القِدم و أنهَّا أبدًا تُخفض العالي و تعلي من سفل ، قسمةٌ ضيزى لا مناص منها و لا مهرب، فلنترك الحديث إذن و لنعقد ٱمالنا على ميزان التاريخ يمحِّص و يُعلي و يخفض ثم يستخلص لنفسه صفوة من نذروا
أسلات أقلامهم للحق و البيان و الفصاحة و الحصافة ، و عزاؤنا أنَّ الزَّبد يذهب جفاء أما ما ينفع الناس فيمكث في الارض
...و لو بعد حِين
______________
(1) بتصرف يسير
و كتبته أم النُّّضار و تُماضر نورالهدى
Commentaires
Enregistrer un commentaire